الخميس، 14 أكتوبر 2021

غرقى على أبواب أوروبا

 

قصة حقيقية لشاب يمني خاض مخاطرة التهريب إلى اليونان



 نهر ميرتش الفاصل بين الحدود التركية واليونانية، الجسر في هذه اللقطة يقع ضمن الحدود التركية في مدينة أدرنة ويبدو هنا واسعاً وهادئاً
التقط الكاتب هذه الصورة في شهر ايلول 2021


هلعٌ وذعر، الجميع يتخبط في الماء أملاً في النجاة، أصوات الصراخ والإستنجاد تخرج مخنوقة مع دخول الماء حلوق الغرقى، قواهم بدأت تخور، وبدأ البعض بالإستسلام للموت، جريان النهر كان سريعاً، والظُلمة حالكة عدى ضوء بسيط يشعُّ به قمر ذلك المساء؛ بدت وكأنها أضواءٌ، تكشف مشهداً مرعباً من اقتراب الأجل لمجموعة من الشبَّان يسحبهم الموت إلى قاع النهر، ويجرُّهم معه إلى مصبّه.

يقترب شخصٌ من ضفة النهر مسرعاً لإنقاذ الغرقى، يمدُّ بقطعةٍ من الخشب لأحدهم، لكنها لا تكفي، يتشبَّث بها فيغرق معها أكثر، يبحث المنقذ عن شيء أكبر، يجد جذع شجرةٍ كبير، يرمي به للمجموعة التي يواصل النهر جرَّها معه، رافضاً تركهم، تمتد الأيادي إلى جذع الشجرة، تتشبَّث بها بقوة، يمسك المنقذ بطرفها الآخر لسحبهم باتجاهه. نجحت الجهود البطولية لهذا المنقذ، واستطاع سحب مجموعةٍ مكونة من 6 أشخاص كانوا يصارعون الموت. وصل الشبّان إلى ضفة النهر يُفرغون رئاتهم من الماء، يلهثون من التعب، غير مستوعبين المعجزة التي حصلت للتو.

كانوا 4 شبّان يمنيين، وجزائريان، ومغربيان أيضاً، أما المنقذ فكان شاباً سورياً. وكان هذا النهر المرعب هو نهرميرتش بالتركية، أو ايفروس باليونانية؛ يفصل بين الحدود التركية اليونانية، ويقطع هذا النهر ثلاث دول، هي بلغاريا واليونان وتركيا، يصل طوله حوالي 480 كم وعرضه، مابين 50-150 متراً، ويصب في بحر إيجة جنوب تركيا.

بعد أن استعاد الشبّان أنفاسهم، وفاقوا من الصدمة، وأدركوا الوضع الذي أصبحوا عليه، ذهبوا يتفقّدون ما حولهم للتعرِّف على المكان الذي هم فيه، والتأكد فعلاً أنهم قد نجوا، أصبحوا يتفحصون وجوه بعض، يُحصون أعدادهم، لكن..هناك شخصٌ مفقود، حاولوا التأكد مرة أخرى، نعم، هناك شخص مفقود. الشخص الذي أنقذهم كان متأكداً أنه أنقذ الجميع، لم يشاهد أحداً آخر غيرهم، بدأت نبضات قلب الشبَّان تتسارع، إنه مفقود، نعم مفقود، أحد الناجين كان أخ هذا المفقود، بدأ بالتلفّت يميناً ويساراً يبحث في الأنحاء دون وِجهة معينة، بدأ بالتعرق، تسارع نبض قلبه، كان يبحث عن أخيه في كل مكان تقع عليه عيناه، ألمٌ يعتصر قلبه من احتمالية أن يكون أخوه قد غرق في قاع النهر ووسط ظلمة الليل، يعرف أن أخاه لا يجيد السباحة، مثله تماماً، يصرخ، وهيب.. وهيب..وهيب.


عودة بالزمن إلى ماقبل الحادثة

القصة بدأت مع شابٍ يمني في العشرين من عمره، سنرمز له بـ "ع.ر"، استقر هذا الشاب لسنوات مع عائلته في دولة أفريقية، منذ بدء الحرب في اليمن، لجأوا إليها أملاً في الحصول على فرصة عيش آمنة. له أخ وأخت وأم يعيشون في ألمانيا، وأخ آخر مصاب بأمراض القلب، تم نقله حديثاً عبر مفوضية اللاجئين التابعة للأمم المتحدة إلى إيطاليا، إلى جانب أخ آخر كمرافقٍ له. شعر "ع.ر" بالإشتياق إلى أسرته، وبرغبة شديدةٍ باللحاق بهم، وإعادة لمِّ شمل الأسرة مرة أخرى، ليجتمع الجميع في بيتٍ واحد، وفي ظروف أفضل من تلك التي عاشوها سابقاً، أحلامٌ ليس من السهل تحقيقها. لم يكن السبيل الوحيد للحاق بهم سوى الهجرة غير الشرعية، عبر خوض مخاطرة التهريب. كانت تركيا هي الحل الأنسب والأقرب، باعتبارها تقع على حدود دول الإتحاد الاوروبي.


الوصول إلى إسطنبول

لم يكن من السهل على حاملي الجنسية اليمنية الحصول على تأشيرة دخولٍ إلى تركيا، لذا كان عليه التحايل من أجل الحصول عليها. وجد طريقةً عبر سمسار ضمِن له الحصول على تأشيرة دخول الى تركيا بمبلغ كبير. لم يمتلك "ع.ر" حينها ذلك المبلغ الذي طُلب منه، جمع ما لديه، لكنها لم تكن كافية، عمِل لمدة شهرين في أعمالٍ شاقة وبشكل متواصل، واقترض مبلغاً كبيراً من أصدقائه ومعارفه، حتى اكتمل المبلغ أخيراً. اقتضت الخطة أن يُدفع المبلغ للسمسار من أجل استخراج تأشيرة مرضية، بناءً على طلبٍ من أحد المستشفيات التركية، وهو ماحصل. تمت التريبات وحجز تذكرة سفرٍ إلى تركيا. وصل "ع.ر" إلى اسطنبول، هذه المدينة التي أبهرته فور وصوله إليها، لجمالها وسحرها، للأسف، لم يكن لديه متسعٌ من الوقت لاستكشافها والإستمتاع بمناظرها الخلابة وطابعها المعماري الفريد، الذي يمزج بين عراقة الشرق وحداثة الغرب.

كان لديه هدفٌ محدد، هو الإلتقاء بعائلته، ووجهةٌ واحدة، هي أوروبا، وألمانيا بالتحديد. لذلك، بعد أيام قليلة من وصوله إلى إسطنبول عمِل على البحث عن خياراتٍ تقربه أكثر إلى أرض أحلامه، كان من بينها استخراج إقامة رسمية في تركيا، وبعدها يتقدم أخوه في ألمانيا باستخراج طلب من السلطات هناك لمنحه تأشيرة دخول إلى ألمانيا. لكن مسألة الحصولِ على أوراق رسمية ستتطلب أشهراً، خاصة أن قدومه كان بتأشيرة مرضية، إضافة إلى ضعف احتمالية قبول السلطات الألمانية إصدار دعوة له، وهو ماصعّب عليه الأمر. خيارٌ آخر وهو الأكثر خطورة، أن يتوجه إلى اليونان بطريقة غير رسمية عبر شبكات المهربين، ومن هناك سيجد طريقة للوصول إلى ألمانيا. كان هذا الخيار هو الأسرع، ورغم مخاطره، فإن احتمالية نجاح الخطة كانت كبيرة وتستحق المغامرة.

كان لـ "ع.ر" شخصان تجمعه بهما صلة قرابة وصلا إلى إسطنبول، هما أخوان، وصل الأول قبل نحو عامين، بينما وصل الآخر قبل شهرين من حادثة الغرق. حين اجتمع هؤلاء الإثنان بـ "ع.ر" بحثا معاً عن طريقة للتهريب إلى اليونان، وقرروا خوض المخاطرة معاً. 

عبر عملياتِ بحثٍ واسعة على شبكات الإنترنت للتعرف أكثر على تفاصيل كثيرة تتعلق بعملية التهريب إلى اليونان، والتنقيب عن أرقام مهربين موثوقين، وبعد توصيات عدَّة، حصل الثلاثة على معلومات تواصل مع أحد المهربين، الذي سيقوم بنقلهم عبر قاربٍ هوائي يسمونه "بلم" من تركيا إلى اليونان عبر نهر ميرتش، ومن هناك عليهم أن يتدبروا أمورهم. كان المبلغ الذي سُلِّم للمهرب لا يتعدى الـ100 يورو للشخص الواحد، يشمل هذا العرض عملية نقلهم من إسطنبول إلى الحدود التركية اليونانية، ومن ثم نقلهم عبر النهر إلى الجهة اليونانية، والتواصل معهم أولاً بأول، ليدلَّهم على الخطوات التالية. مخاطر الرحلة تتلخص في التواجد الكثيف لعناصر الأمن والجيش اليوناني والتركي على طول الحدود بين البلدين، بالإضافة إلى سمعة حرس الحدود اليوناني السيئة في التعامل مع المهاجرين غير الشرعيين. عنصرٌ آخر لم يدر في خَلَد "ع.ر" ورفيقيه، وهو أن السلطات اليونانية أقدمت على تشديدات أكثر في الأيام الأخيرة، قبل أسبوع من رحلتهم، بسبب التطورات التي جرت في أفغانستان مع سيطرة حركة طالبان على الحكم في البلاد، وتخوفات في أوروبا من حدوث موجات هجرة واسعة للأفغان. وهو ما دعى الدول لتشديد إجراءات حراستها على حدودها البرية، تماماً كما فعلت تركيا مع ايران، أو اليونان مع تركيا، حين قامت اليونان ببناء جدار بين البلدين يقدر طوله بـ40كم.

لم يعرف "ع.ر" عن كل هذه التطورات، ولم يكن ليكترث كثيراً لها، لاسيما وأنه كان يخشى من قرب قدوم فصل الشتاء الذي سيُصعّب مهمة عبوره كثيراً. تم الإتفاق على يوم محدد يتواجدون فيه في مدينة أدرنه التركية الحدودية مع اليونان، والتي تتسم طبيعتها الجغرافية بوجود أحراش وغابات يستطيع المهاجرون التخفي فيها، عوضاً عن وجود مجموعات خاصة للراغبين في الهجرة غير الشرعية على تطبيقات الواتساب وغيرها، تقدم عدد من النصائحوالإرشادات في كيفية العبور، ومن أين، وماهي الترتيبات التي يجب أن تُتخذ. تضمّنت التعليمات نقاط عدّه كان أهمها؛ أن لا يصطحبوا معهم أي أوراقِ هوية أو أموال كثيرة، غير تلك التي سيحتاجونها اثناء رحلتهم إلى اليونان والوصول إلى مكانٍ آمن ضمن الخطة المعدّة، سيكون معهم هاتفٌ واحد مزوّد برقم تجوال دولي يسمح لهم بمعرفة الطريق الذي سيسلكونه عبر استخدام شبكة انترنت وإحدى تطبيقات الخرائط، إضافة إلى مؤونة غذائية تكفي الفرد أسبوعاً كاملاً وبعض الأغطية، وكلها بالإمكان حملها عبر حقيبة ظهر.


خوض الرحلة

قبل يوم من حادثة الغرق، تكفّل المهرب بنقل المتوجهين إلى اليونان على متن حافلة مرسيدس سوداء، إنطلقت من إسطنبول إلى مدينة أدرنة التركية الحدودية مع اليونان. جميع من في الحافلة شُبّانٌ من جنسيات مختلفة، معظمهم سوريون، لم تكن هناك عائلات، لا نساء، لا أطفال أو كبار في السن، كلهم شبَّان، تتراوح أعمارهم بين العشرين والأربعين، لديهم قوة تحمّل كبيرة؛ إذ لا تستطيع العوائل تحمَّل مشقَّة المشي والركض لعشرات وربما مئات الكيلومترات على مدى أيام. سيحتاج من يخوض هذه الرحلة من عشرة إلى عشرين يوماً ليتمم المرحلة الأولى من هذه الرحلة. كانت الشمس تشارف على المغيب، آخذة معها كل الضوء الذي منحته طوال النهار. مجموعة من الأحاسيس المتناقضة تتصارع بدواخلهم، فرحة اللقاء التي ستجمعهم بأهاليهم، الوصول إلى الأرض الموعودة التي يحلم كثيرٌ من فاقدي الأمل بالوصول إليها، أسلوب العيش الأوروبي الباذخ، حيث للإنسان قيمته، ومشاعرُ أخرى تتلخّصُ بالخوف من المجهول، وكل تلك الهواجس المتعلقة بالمصير الذي قد يواجهونه إن لم تمشِ الخطة حسب المرسوم.

أثناء طريقهم إلى النهر، وجدتهم مجموعة من عناصر الجاندرما التركية، تعاملوا معهم بتهذيب، التقطوا لهم بعض الصور -لا يُعرف الغرض من ذلك- ثم سمحوا لهم بمواصلة الطريق، بعد دقائق، واجهوا رجلاً تركياً بملابس مدنية، وعلى مسافة منه شرطي تركي آخر، قام هذا الرجل بتفتيشهم، دون أن تعرف هذه المجموعة إن كان شرطياً بلباسٍ مدني، أو مواطناً عادياً، لكن الغريب أنه كان على مقربة من شرطيٍ آخر يستطيع رؤيته، دون أن يُقدِم على إيقافه. واحداً تلو آخر، قام هذا الرجل بتفتيش المجموعة، ونهب كل الاموال التي بحوزتهم، والمقدَّرة بـ70 يورو لدى كل شخص، كان من المفترض أن تعينهم على شراء بعض الطعام بعد عبور النهر إلى اليونان؛ ربما يعرف هذا الشخص، وجود أموالٍ يحتفظ بها اللاجئون المتهربون حين يصلون هذا المكان.. من يدري، قد ربما لم تكن مصادفة أنه وجدهم. تعرضت المجموعة للنشل دون أن تقاوم، كانت هذه إشارة سيئة في أول مشوارهم إلى جنتهم الأوروبية، تبادل أفراد المجموعة النظرات، وهم يتعرضون للتفتيش والنشل دون أن تتحرك شفاههم، كانت مشاعر القهر والإذلال كل مايشعرون به. تُركوا بعد ذلك في حال سبيلهم ليواصلوا مسيرتهم.


حطّت الأقدام على الأراضي اليونانية..!

كان "البلم" بانتظار "ع.ر" وقريبيه، وسبعةُ أشخاص آخرين، من ضمنهم صوماليٌ ويمنيٌ آخر. صعدت المجموعة "البلم"، متجهين للجانب اليوناني، وقبل أن تصل لضفة النهر، مر "البلم" بمنحنيات مائية للتأكد من عدم وجود عناصر حرس الحدود بانتظار القادمين الجدد من الجهة التركية. أخيراً حط "البلم" على الضفة اليونانية المقابلة، نزلت المجموعة، وبدأت بالركض بسرعة باتجاه الغابات اليونانية، مستغلة جنوح الظلام. حطَّت أقدامهم لأول مرة على دولة عضو في الإتحاد الأوروبي، يبدو أن الخطة تجري وفق ماهو معدٌ لها، وها قد تم اجتياز أول مرحلة فيها. كانوا متلهفين للوصول بسرعة إلى نقطتهم المنشودة في المرحلة التالية بعد ساعات من السير، متخفين ومسرعي الخطى.


لقاء غير مرغوب به

بعد ساعتين من المشي المضني والمُجهِد، والإسراع قليلاً ومن ثم التمهّل، التلفُّت يميناً ويساراً للتأكد من أن الطريق آمن. فجأة وعلى نحو مفزع، انقلبت عتمة الليل إلى نهارٍ ساطع، ضوءٌ شديدٌ أعمى أعينهم، مُسلَّطٌ مباشرة على وجوههم، كان الضوء قادماً من مسافة لا تبعد عنهم سوى 100 متر، تلك كانت دورية حدودية للشرطة اليونانية، أو هكذا خُيّل للمجموعة. للحظات ظنت المجموعة أنها فقدت بصرها وأصبحت لا ترى شيئاً سوى ضوءاً ناصع البياض، لا شيء آخر. في الحقيقة تلك حيلة تستخدمها قوات الشرطة في بلدان عدِّة لتشلَّ حركة المجرمين بعد اكتشافهم يمارسون الجُرم، وتجعلهم عاجزين عن الحركة، لا يرون أمامهم. ثوانٍ معدودات حتى أقبلت عناصر حرس الحدود اليونانية، قُدِّرعددهم بنحو خمسة إلى ستة أفراد، أجساد ضخمة وطويلة تفوق ضخامتها "ع.ر" ومجموعته بأضعاف. كانت عناصر الشرطة ترتدي قناعات سوداء تخفي ملامح أصحابها، كتلك التي يرتديها لصوص البنوك في الأفلام والمسلسلات. انهالت عناصر الشرطة على "ع.ر" وباقي أفراد المجموعة ضرباً بالهراوات والعصي، ضربٌ عنيف من كل جانب، دون تمييز للإماكن الحساسة، في الرأس، في الوجه، على الظهر، تكوّم "ع.ر" وزملاؤه على الأرض ليحموا رؤوسهم من وقع تلك الهراوات التي يمكنها أن تشطر رؤوسهم إلى شطرين. فقد "ع.ر" إحساسه بالزمن في تلك اللحظة، لم يكن يتوقع أنه سينجو من ذلك الضرب المبرح، لكنه قدّر الزمن الذي ظلوا يتعرضون فيه لهذا الكم الكبير من العنف بنحو ساعة إلى ساعة ونصف من الضرب المتواصل، لم يكن لجسد "ع.ر" النحيل المتهاوي أن يتحمَّل كل تلك الكمية من العنف الشديد، حتى شعر أنه سيُغمى عليه. توقف الجنود لدقائق بعد أن أعياهم التعب، وأخذوا يتفقّدون ماتحمله حقائب هؤلاء المتسللين، بقايا طعامٍ وماء، كانت زاد المجموعة الوحيد لأيام، أخذوا يأكلون طعاهم بطريقة حيوانية ويلعبون بها، غير آبهين بحاجة الأجساد الهزيلة الجائعة. قام الجنود بإفراغ مياه شربهم التي تحويه قنيناتهم على الأرض، ليس من السهولة أن تجد المجموعة ماء للشرب بعد الآن، حتى وإن استطاعت تجاوز عناصر حرس الحدود. .مع فقدانهم لزادهم، انقطعت آمالهم بمواصلة رحلتهم

في الأثناء جرى موقفٌ مع "ع.ر" ورفاقه لم ينسه أبداً لظرافته، موقفٌ مُضحك ومبكٍ في آن واحد. كان هناك شابٌ عراقي، من الواضح أنه لا يجيد الإنجليزية، عندما كان يتعرض للضرب، كان حرس الحدود يرددون على مسامع اللاجئين هذه الجُمل:

“Turkey Yes.. Greece No”

أي بمعنى " تركيا نعم.. اليونان لا"، يقصدون بذلك أن على اللاجئين التوجّه لتركيا وليس اليونان.

ثم يطلبون من اللاجئين ترديدها، وإن قالها أحدهم بصوتٍ منخفض، يتعرَّض للضرب المبرح حتى يقولها بشكل واضح ومسموع. قالها "ع.ر" بشكل سليم، ونفِذ من العقوبة، عندما جاء دور الشاب العراقي، طُلب منه ترديد ذات الجملة، وبسبب الخوف والتوتر الذي كان مسيطراً عليه، رددها بشكل معكوس:

“Turkey No.. Greece Yes”

لم يستطع نطقها بشكل سليم، ويالحظه التعيس، تعرض للضرب بقسوة، ثم طُلب منه ترديد الجملة مرة أخرى، فكرر نطقها بطريقة خاطئة، فاستمر الجنود بإبراحه ضرباً، حاول "ع.ر" وهو الجالس إلى جانبه مساعدته، فقال له ردد بعدي:

“Turkey Yes.. Greece No”

سمعه الجندي وهو يحاول مساعدته، فتوجه بالضرب مباشرة على "ع.ر"، عقاباً له على مساعدته، وبات الإثنان يتعرضان للضرب الشديد، لم يعرف "ع.ر" حينها، هل يضحك على كوميديا الموقف أم يبكي من الألم الذي يشعر به بسبب الضرب الذي ينهال عليهما.

من بعيد، كان يُسمع صوت إطارات تمرُّ على طريق إسفلتي ومحرك مزعج يقترب باتجاه المجموعة، كانت تلك شاحنةً للوحدة العسكرية، استبشرت المجموعة كثيراً بقدوم تلك الشاحنة، على الأقل ستتوقف عنهم الركلات واللكمات والإهانات. توقفت الشاحنة على مقربة منهم، تحرك الجنود صوب المجموعة، أجبروهم على صعود ظهر الشاحنة كالمواشي. تحركت الشاحنة مجدداً، لكن هذه المرة كانت الحمولة عليها أثقل، ولديها زوَّار جدد، السائق الذي فاتته عملية تعذيب "ع.ر" ومجموعته، شارك هذه المرة بدور لا يقل عنفاً عن الدور الذي قام به زملاؤه، كان يقود الشاحنة بتهوّر جنوني، ثم يدوس على الفرامل بشكل مفاجئ، وهكذا لعدة مرات أثناء عملية نقلهم إلى مقر الوحدة العسكرية التي سيُحتجزن فيها، تعرض أفراد المجموعة لعدد من الرضوض والكدمات جرّاء اصطدامهم ببعضهم وبأجزاء الشاحنة.


الإجبار على التعري

وصلت المجموعة إلى مقر عسكري يبدو وكأنه منشأة احتجازاستُحدثت من أجل وضع اللاجئين القادمين بطريقة غير شرعية فيه. وصل "ع.ر" ورفاقه على مكان مزدحمٍ بالبشر، يبدو أنها مجموعات ساقها حظها العاثر إلى هنا، تماماً كما جرى معهم، شبّانٌ، ونساء وأطفال يكتظ بهم المكان. كان هناك ثلاثة أطفال تتراوح أعمارهم بين السابعة والعاشرة، بالإضافة إلى مجموعة من النساء، أما الغالبية فكانوا شبّاناً يافعين. هناك أُجبروا على نزع ملابسهم حتى بقوا عرايا تماماً، لا شيء يغطي حتى عوراتهم، أُمِروا بالجلوس على طريقة استخدام المراحيض العربية، تنسدهم قدمان مرتجفتان، كان التعامل مُهيناً، لا علاقة له بالإنسانية أو باحترام كرامة البشر، توقع "ع.ر" أن يكون الطلب الغريب منهم بالتعري والجلوس بهذه الطريقة سببه التأكد من عدم وجود أموال مخبأة في فروج المتسللين، وربما تلك حيلة يلجأ إليها بعضهم، كمخبأٍ مناسب إن تعرضوا للتعري والتفتيش لإخفاء أموالهم. لم يكن الجنود اليونانيون يعرفون أن اللاجئين قد تعرضوا للنشل على الحدود التركية، ونُهبت كل الأموال التي كانت بحوزتهم.

تمت العملية دون أن يعثروا على شيء من أفراد المجموعة، أُعيدت لهم ملابسهم بعد ذلك، وسُمح لهم بارتدائها، عدا أحذيتهم التي فقدوها أثناء تعرضهم للضرب في أول لقاء جمعهم مع عناصر حرس الحدود اليونانية. لم تتحرك ضمائر الجنود لتقديم أطعمة أو مشروبات للمحتجزين، على الرغم أن مَعِدَاتِهم كانت خاوية وتعتصر من الجوع، هذا عدا أن المكان كان قذراً للغاية؛ الحمام الوحيد الموجود في عنبر الإحتجاز لا يوجد فيه ماء للغسل، وكان البول والبراز يملأُ أرضية الحمام، والرائحة نتنة جداً، وبسبب حجم الحمام الصغير والعديد الكبير للمتحجزين، كان البول يتسرب إلى خارج الحمام، فلجأ المحتجزون إلى زاوية من العنبر، بينما احتلت القذارة الزاوية الأخرى. كان التعامل بالنسبة للأطفال والنساء مختلفاً، فقد وجدوا الرعاية والإهتمام من الشرطة اليونانية، ولم يمسّهم أذى ما مسّ الرجال. قُدّر "ع.ر" عدد المحتجزين في تلك الليلة وفي تلك المنشأة العسكرية بنحو ثمانين شخصاً بينهم نساء وأطفال. قضى "ع.ر" ورفاقه ليلتهم مع تلك الجموع فاقدة الحيلة، بلا طعام أو شراب أو أغطية، لم ينم معظمهم بسبب غرابة الوضع الذي أمسوا عليه.

في صباح اليوم التالي صدرت توجيهات بنقلهم إلى النهر وإعادتهم إلى الجانب التركي. على الرغم من اعتراضات المحتجزين وتوسلاتهم، إلا أن الشرطة اليونانية لن تتراجع، ستُلقي بهم في الجانب التركي. تبخّرت أحلام اللاجئين بالذهاب إلى وجهاتهم. استمر أفراد المجموعة مع بعضهم، وأُضيف إليهم أفراد آخرون وصلوا أيضاً في الليلة السابقة. اصطحبهم رجلان يرتديان زياً عسكرياً يونانياً، لاحظ "ع.ر" حينها أنهم متعاونون سوريون مع الشرطة اليونانية، لاحظ تلفّتهم بطريقة تشي بمعرفتهم للغة العربية أثناء حديث اللاجئين مع بعضهم، على الرغم من حرص الرجلين على عدم معرفة هوياتهم العربية.

تلاشي الحلم، والعودة القسرية الى الجانب التركي

 قبل الصعود على ظهر "البلم" أمرهم هذان الرجلان بنزع كل ملابسهم مع الإبقاء على شورتاتهم الداخلية، من الواضح أن هذان الأثنان أرادا الحصول على حصّتهم من حفلة السلب التي تقيمها كل الجهات ضد اللاجئين، حتى لو كانت أشياء غير ذات معنى وفائدة لمن سينهبها. صعدت المجموعة "البلم"، وعبَر بهم الرجلان إلى الضفة الأخرى في الجانب التركي، في منطقة خالية من أي تواجد لجنود أتراك، تجنباً للإشتباك معهم، فالجانبان اعتادا على حوادث اشتباك مستمرة على خلفية قضية اللاجئين والمهاجرين. كان ذلك في ظهيرة يوم الأحد، وكانت المجموعة التي وصلت إلى ضفة النهر التركية عبارة عن 10 أشخاص. أثناء إنزال اللاجئين من على "البلم"، توعّد الرجلان اللذّين أصطحبا المجموعة وهدداهم بمعاملة أسوء من السابق، إن حاولوا العودة مرة أخرى إلى الأراضي اليونانية.

وفعلاً كانت الحالة الجسدية والمعنوية للمجموعة لا تسمح لهم بالعودة مجدداً، عوضاً على أنهم فقدوا كل زادهم، والذي كان سيُبقيهم أحياءً لمدة عشرة أيام. قررت المجموعة العودة إلى إسطنبول، فمضوا في طريق عودتهم، وأثناء مرورهم على قرى تركية، شاهدهم مزارعون وعناصر من الجاندرما التركية؛ كان من السهل ملاحظتهم، ثمانون شخصاً تم إعادتهم على دُفَعٍ متلاحقة إلى الجانب التركي. توجهت عناصر الجندرما إليهم، قدموا لهم العون، ملابس وبسكويت وعصائر، أطفؤا جوع وعطش اللاجئين التائهين المنهكين، قامت الجندرما بتجميعهم وتقديم المساعدة لهم، قُدمت وعودٌ لهم بأنه مع حلول غروب الشمس ستأتي شاحنات لإعادتهم إلى إسطنبول. قضى اللاجئون ساعات سعيدة مع عناصر الجندرما الذين لم يتوقفوا عن تقديم المساعدة، تبادلوا أطراف الحديث، أنستهم هذه الساعات قليلاً من المعاناة التي وجدوها في الجانب اليوناني، البعض تحصّل على بنطالٍ يغطي نصفه السفلي، يقيه برودة الليل، صحيحٌ أنه كان كبيراً إلى حدٍ ما، لكن يفي بالغرض، آخرون وجدوا فردة حذاء واحدة، البعض تحصّل على قميص، والبعض الآخر لم يجد شيئاً. كان مشهداً غريباً، حين بدو جميعاً بملابس لا تتناسق مع أشكالهم وأحجامهم، كان مشهداً سيلهم مصمم أزياء سريالي في أعماله الفنية.

عودوا الى اليونان.. لا مكان لكم هنا

مع غروب الشمس، وأثناء ماكانت تلك المجموعات في ترقّب لوسيلة المواصلات التي ستُقِّلهم إلى إسطنبول، وصلت الشاحنات التي وُعدوا بها، تحضّروا جميعاً للمغادرة، لكن.. حدث مالم يكن في الحسبان. جاء رجلٌ يرتدي قميصاً وبنطالاً على هيئة موظف رسمي، يبدو أنه قائد الجنود، لكنه لم يكن يرتدي زياً أو رتبة عسكرية، كان حاد الطباع، يصرخ في وجوه اللاجئين ويشتمهم؛ أصيبت الجموع بالذهول، قبل ساعات كان الجنود يعاملونهم بودٍ واحترام، وفجأة انقلب الحال بمجيء هذا الرجل الفظ الذي ينهال عليهم بالإهانات والشتائم. فصل هذا القادم الجديد الرجال عن النساء والأطفال، عدا الرجال الذين كانت لديهم أسر ضمن هذه المجموعات، أمر بتحميل الشبّان على ظهر الشاحنات، كتلك الشاحنات اليونانية، باستثناء أن سائقها هذه المرة لم يتعمد الدوس على الفرامل بطريقةٍ مفاجأة كما فعل السائق اليوناني. تحركت بهم الشاحنات لمدة نصف ساعة في طرق ترابية، وبدلاً من نقلهم إلى إسطنبول كما هو متوقع، وجدوا أنفسهم أمام نهر ميرتش مجدداً، تم إعادتهم إلى هناك لإجبارهم على مغادرة الأراضي التركية، والتوجّه إلى الضفة اليونانية مرة أخرى. اصطفت مجموعات اللاجئين على عشرة أفراد، تمت تعبئة "البلم"، الواحد تلو الآخر، نُقلوا إلى الجانب اليوناني، مشاعر السعادة والحماس التي شعروا بها في عبورهم الأول تجاه الضفة اليونانية انطفأت، شعروا هذه المرة بمشاعر الإحباط والخوف، الخوف من مصير الليلة الماضية، الخوف من الضرب المبرح والإهانات، الخوف من أن ينفِّذ اليونانيون تهديداتهم إن عادوا. وصلت المجموعات جميعها إلى الجانب اليوناني، لم يجرؤ أحد على تجاوز الضفة والتوغل أكثر في الأراضي اليونانية، ظلوا يمشون بمحاذاة النهر حتى يغيبوا عن أعين الجاندرما التركية. بعد فترة وجيزة، قرر عدد من اللاجئين والمهاجرين العودة إلى الجانب التركي مهما كلَّف الأمر، يعرفون جيداً أنه لا سبيل لإكمال الرحلة التي جاؤوا من أجلها، خاصة بعد فقدانهم المؤونة اللازمة لخوضها. ستكون العودة سباحة، إذ لا وجود لـ"لبلم" هذه المرة.

كانت الساعة الثامنة مساء، اُستبدلت الشمس بالقمر، لكن شتّان بين ضوء الإثنين، ضوء القمر ليس كافياً لخوض هذه المخاطرة. مجموعة من المهاجرين الجزائريين والمغاربة ممن يعرفون بعضهم، قرروا وتجرأوا على خوض النهر سباحة، كان "ع.ر" ورفاقه خلفهم، فقد اتخذوا ذات القرار، عبور النهر الخطر، سريع الجريان. يتصف النهر بالهدوء في أماكن، والسرعة في أماكن أخرى،عميقٌ وضحل، يضيق ويتسع، صادف أن المكان الذي كانوا فيه ضيق وسريع وعميق، فمع سرعة النهر الطبيعية كانت هناك مضخَّة على بعد عشرات الأمتار تعمل على توليد الطاقة، عن طريق ضخ مياه النهر، فكانت سرعة النهر شديدة في تلك النقطة. دخلت المجموعة الجزائرية إلى عمق لا يستطيعون العودة منه، توغلوا كثيراً، وكانوا أقرب للوصول إلى الضفة التركية، لم يتبقَ إلا القليل، فجأة.. فُقدت السيطرة، بدأ الشبّان يتخبطون في الماء يحاولون التقاط أنفاسهم، شعر بعضهم بالإعياء من مقاومة مياه النهر. المجموعة التي كانت تضم ستة أفراد عاد منها أثنان فقط. أصوات الصراخ اختلطت مع صوت جريان النهر السريع. مجموعة "ع.ر" كانت خلف المجموعة التي كانت تضم الجزائريين والمغاربة، كان الوقت قد فات، "ع.ر" ورفاقه توغلوا كثيراً ولم يعد هناك مجال للعودة، بدأت المياه تسحبهم تدريجياً بطريقة أصبحوا يقاومون جريان التيار أملاً في عدم فقدان السيطرة، لكن إنهاك اليومين الماضيين كان كافياً ليفُتَّ من تماسكهم وتخور قواهم. انتصر النهر عليهم، وبدأوا يصارعون الموت.

كانت مجموعة "ع.ر" تضم شاباً يمنياً اسمه وهيب إلى جانب أخ له، ويمني آخر ومغربيان وجزائريان، جميعهم كانوا يخوضون صراعاً مريراً مع الموت، صراعٌ غير عادل يمتلك فيه الموت الأفضلية، حاول أفراد المجموعة في خضم هذه المعركة الظفر بأخذ أنفاس تُطيل مدة بقائهم أحياءً لعدة ثوانٍ أخرى. هبّ شاب سوري كان قد دخل النهر خلفهم، لكن قدرته على السباحة كانت أفضل، استطاع التراجع إلى الضفة اليونانية، وبدأ بالبحث عن وسيلة انقاذ لـ "ع.ر" ومجموعته. ألقى عليهم غصن شجرة صغير بالكاد تستطيع نملة التشبّث به. لم يجدي ذلك الغصن نفعاً، وجد جذع شجرة كبير وملائم ألقى به عليهم، فكانت طوق النجاة. استطاع سحب المجموعة إلى الضفة اليونانية.

صدمة الفقدان

نجحت الجهود البطولية لهذا المنقذ، واستطاع سحب مجموعةٍ مكونة من 6 أشخاص كانوا يصارعون الموت. وصل الشبّان إلى ضفة النهر يُفرغون رئاتهم من الماء، يلهثون من التعب، غير مستوعبين المعجزة التي حصلت للتو.

بعد أن استعاد الشبّان أنفاسهم، وفاقوا من الصدمة، وأدركوا الوضع الذي أصبحوا عليه، ذهبوا يتفقدون ما حولهم للتعرِّف على المكان الذي هم فيه، والتأكد فعلاً أنهم قد نجوا، أصبحوا يتفحصون وجوه بعض، يحصون أعدادهم، لكن..هناك شخصٌ مفقود، حاولوا التأكد مرة أخرى، نعم، هناك شخص مفقود، الشخص الذي أنقذهم كان متأكداً أنه أنقذ الجميع، لم يشاهد أحداً آخر غيرهم، بدأت نبضات قلب الشبَّان تتسارع، إنه مفقود، نعم مفقود، أحد الناجين كان أخ هذا المفقود، بدأ بالتلفّت يميناً ويساراً يبحث في الأنحاء دون وِجهة معينة، بدأ بالتعرق، تسارع نبض قلبه، كان يبحث عن أخيه في كل مكان تقع عليه عيناه، ألمٌ يعتصر قلبه من احتمالية أن يكون أخوه قد غرق في قاع النهر ووسط ظلمة الليل، يعرف أن أخاه لا يعرف السباحة، مثله تماماً، يصرخ وهيب.. وهيب..وهيب.

دون تفكير ووعي كان أخوه على وشك القفز إلى الماء مرة أخرى والبحث عن وهيب، مخاطرة قد تودي بحياته بعد أخيه، لا سيما وأن لديه مشاكل في جهازه التنفسي، لم يكن عقله حاضراً في تلك اللحظة لتحذيره من مخاطر الإقدام على هذه الخطوة، وكان يمكن أن تتم، لولا أن "ع.ر" وزملاءه أوقفوه في اللحظة الأخيرة؛ كانوا يعرفون حقيقة الوضع، وأنهم بدلاً من فقدان شخصٍ واحد سيفقدون آخر.

صرخت المجموعة على الأتراك في الجانب الآخر أن يهرعوا لمساعدتهم في البحث عن وهيب، لكن لا دون جدوى، بعد بحث استمر لساعات، اسُتهلكت طاقة المجموعة وشعروا أنه لم تعد هناك فائدة من مواصلة البحث. توقفوا ليعطوا أجسامهم بعض الراحة، داهمهم النوم دون أن يشعروا بقدومه، أيقظهم ضوء الصباح في اليوم التالي.

عودة أخرى الى الجانب التركي

تجولوا في المكان علّ وعسى يجدوا اثراً لوهيب، لكن لا أثر، قرروا بعدها العودة إلى الجانب التركي، ومن هناك إلى إسطنبول ليبدأوا رحلة البحث عن رفيقهم. لحسن الحظ وجدهم رجل تركي على الجانب الآخر، هبط عليهم كملاك من السماء، دلّهم على منطقة تبعد عنهم نصف ساعة سيراً على الأقدام، باتجاه الشمال وبمحاذاة النهر، هناك سيجدون النهر ضحلاً ما يمكِّنهم من عبوره. وفعلاً، استمروا بالمشي حتى وصلوا إلى تلك المنطقة. في البداية قطع رجلان من مجموعة أخرى النهر للتأكد من كلام ذلك الرجل التركي، الذي دلهم على هذه النقطة، بدأوا بعبور النهر، فكان ارتفاع النهر يصل متراً واحداً فقط، وهو ارتفاعٌ كافٍ يمكّنهم من العبور دون مخاطر. بعد نجاح هذين الشابين، بالوصول إلى الضفة المقابلة، لحق بهم "ع.ر" ومجموعته، لكن اتضح أن المكان الذي وصلوا إليه هو قطعةُ يابسة يتفرع النهر على جانبيه، ليشكّل جزيرة صغيرة، تحيط به المياه من كل جانب، بقي فرعٌ آخر من النهر ضحلٌ يصل عمقه من 1.50 الى 1.70 إلا أنه أكثر جرياناً، لكن وعلى سبيل السرعة، وقبل عبور التفرع الثاني من النهر، وجدهم الجنود الأتراك.

قبضت الجاندرما التركية على المجموعة التي عبرت إلى الضفة، وبقيت مجموعات على الجزيرة الصغيرة، بدأ الجنود بمناداة تلك المجموعات التي أصبحت مابين فرعي النهر، يدعونهم للقدوم، ويعدونهم بنقلهم إلى إسطنبول، لكن هذه المرة لم يكن اللاجئون مطمئنين لتلك الوعود، لاسيما وأنها قد قُطعت لهم سابقاً، قبل أن يأتي ذلك المسؤول سيء الطِباع، ويأمر بإعادتهم إلى اليونان. البديل أيضاً لم يكن جاذباً البتّة، الجنود اليونانيون بالهراوات وصور الرعب التي عاشوها بانتظارهم، وقد يتكرر معهم ماجرى في المرة الماضية، أصبح اللاجئون في حيرة من أمرهم، جزءٌ منهم استجاب لدعوة الجنود بالقدوم، والجزء الآخر فزع وقرر العودة إلى الجانب اليوناني. همّ "ع.ر" بالعبور أيضاً، تقدّم مجموعته ليعبر هذا القسم من النهر سريع الجريان، وفور وصوله إلى الجانب التركي، ظهر جندي من العدم وأمسك به، فزع "ع.ر" لكن لا مفر، فقد أصبح بيد الجاندرما التركية، أما مجموعته فتراجعت إلى الخلف بعد أن قطعت مترين في الماء، وعادت إلى الجزيرة الصغيرة؛ قررت هي الأخرى أن تعود مع المجموعات الأخرى إلى الجانب اليوناني، وهنا انفصل "ع.ر" عن رفيقه أخو وهيب.

اصطحب الجندي التركي "ع.ر" إلى جانب المجموعات الأخرى التي استمعت إلى نداء الجنود الأتراك، وهناك وجد عدد آخر من الجنود، حاول "ع.ر" طلب المساعدة منهم في البحث عن رفيقه وهيب، أو على الأقل أن يدلوه على معلومات تساعده في العثور عليه، أخبرهم أنه فقد وهيب في النهر الليلة الماضية، نصحوه بالتوجه إلى مستشفيات المدينة، فقد ربما غرق ووُجدت جثته ونُقلت إلى ثلاجة الموتى هناك. لكن إلى ذلك الحين، أخبروه أن بإمكانه العودة إلى القرى التركية، وهناك سيجد سيارات ستنقله إلى إسطنبول.

يعيش بعض أبناء تلك القرى -وأحياناً من خارجها- على حاجة اللاجئين الذين يأتون إليهم ليعيدونهم إلى إسطنبول، فيأخذون مقابل كل فرد منهم 50 يورو، أجرة الطريق. كان "ع.ر" لا يملك حتى حذاءً، بعد أن جرّده أولئك المتعاونون مع الشرطة من كل شيء، قدماه ممزقتان، ولم يعد يقوى على المشي أكثر، لكن لا سبيل أمامه سوى الذهاب إلى تلك القرية التي تبعد عنه حوالي من 4-5 ساعات مشياً على الأقدام. عند وصوله القرية منهكاً ومتعباً يهدّه الإعياء وجد أحد السائقين، كان في انتظار حالات مماثلة لـ "ع.ر". بعد ركوبه السيارة، انتظر السائق حتى يملأ سيارته بالركاب ليضمن ربحاً أوفر، وبعدها انطلقت السيارة نحو إسطنبول.

اشتباكات بين حرس الحدود التركي واليوناني

على الجانب الآخر من الأراضي اليونانية، كان أخو وهيب ومجموعات أخرى تائهة، تمشي دون سبيل، دون ماء، دون مؤونة، دون وجهة محددة، ظلوا لساعات يسيرون، حتى وجدهم الجنود اليونانيون، هذه المرة سلّمت المجموعات نفسها دون مقاومة أو محاولة للفرار، كانت أشكالهم واضحة، مرهقون ومتعبون، وأنهم من المجموعات التي ألقى حرس الحدود اليوناني القبض عليها سابقاً، ويبدو أن الجنود الأتراك أعادوهم، لم تكن هناك حاجة لسؤالهم عن سبب مجيئهم مرة أخرى. كان اللاجئون مثل كرة التنس، كل طرف يرمي بهم إلى الجهة المقابلة، رافضاً بقاءهم على أراضيه.

كانت النتيجة معروفة، أخذهم الجنود اليونانيون، وأعادوهم مرة أخرى إلى الجانب التركي، وفي كل مرة يعيد فيها الجانبان اللاجئين ويبعدونهم عن أراضيهم يبحثون عن ضفة لا تتواجد فيها عناصر الشرطة لدى الطرف الآخر، كي لا يحصل اشتباك عسكري بينهما.

كان أخو وهيب، ويمني آخر وصومالي في مجموعة واحدة، ظلت متماسكة، عند نزولهم الجانب التركي، وجدهم جنودٌ أتراك، أخذوا اللاجئين على طول النهر لغرض إعادتهم مرة أخرى إلى الجانب اليوناني، لكن هذه المرة كان هناك تواجد لعناصر حرس الحدود اليوناني في الضفة الأخرى، ولأول مرة، أصبح الجنود الأتراك واليونانيون في مجال رؤية واحدة، وأثناء محاولة الأتراك إعادة اللاجئين إلى الجانب اليوناني، اندلعت مشادة بين الطرفين، شحذ الجنود أسلحتهم، وبدأوا بإطلاق النار في الهواء. حالة من الرعب والإرباك عمّت المكان، اللاجئون وجدوها فرصة للإفلات من الجنود الأتراك والتوغل أكثر في الأراضي التركية، وهكذا فعل أخو وهيب ورفيقاه، اللذان سلكا ذات الطريق الذي سلكه "ع.ر" في اليوم السابق، وجدوا سائق السيارة الذي كان بانتظارهم، وبانتظار ما سيدفعونه مقابل إعادتهم إلى إسطنبول.

في تلك الحالات من المؤكد ان جميع اللاجئين لا يملكون نقوداً يدفعون بها أجرة الطريق، لكن السائقين يعرفون انهم سيدفعونها فور وصولهم إلى إسطنبول، عن طريق أحد معارفهم الذي سيكون باستقبالهم عند الوصول إلى وجهتهم.

التقى أخو وهيب بـ "ع.ر" وكان في حالة سيئة، أما "ع.ر" فلم يستطع التحرك من مكانه منذ اليوم الأول، بسبب التعذيب والمشقّة التي واجهها طيلة رحلة التهريب. وهكذا عندما التقيا بدءا ينتحبان، ويعرضان شريط كل المخاطر والصعوبات والعذابات التي مرا بها، ووهيب، وهيب أيضاً فقدانه كان أم الكوارث.


اللقاء مع الكاتب

عندما أتيتهم "الكاتب" كانوا في حالة جسدية مريعة، آثار التعذيب تغطي اجسامهم، بقع داكنة زرقاء، دكمات متفرقة في أجسادهم ورؤوسهم. يسكنون في غرفة صغيرة ضيقة في أحد أحياء اسطنبول الصاخبة. بدأوا بسرد القصة لي بكل تفاصيلها. دون أن تتحدث ألسنتهم كانت وجوههم، أشكالهم، مشاعرهم تحكي الكثير، لا يمكن تصوّر ما مر به هؤلاء الشبّان من عذابات ومواقف لا يتحملها أي كائن بشري. أعينهم شبه مفتوحة بسبب التورمات التي تغطي وجوههم جراء الضربات التي وُجهت لهم. رغم ذلك كان الهمّ الغالب على تفكيرهم، كيف نجد طريقة في البحث عن وهيب. لم يتوقفوا عن الحديث عن وهيب وماهي إمكانيات العثور عليه، ومن بإمكانه تقديم العون لهم في البحث عنه. حتى وإن كان ميتاً، على الأقل عليه أن يحظى بتكريم لائق في قبرٍ يحفظ له ماتبقى من كرامته التي انتُهكت طوال رحلته المشؤومة.

بعد اللقاء، استمرت جهود البحث من قبل أسرة المفقود في كلا الجانبين، اليوناني والتركي لدى الجهات الرسمية. تحرك أخوه الأكبر الذي يعيش في هولندا للبحث عنه في كل مكان، ابتداءاً من اليونان وانتهاءاً بتركيا، طرق كل الأبواب، ووكّل محامين لمتابعة البحث عنه.

شهران مضت منذ وقوع الحادثة وحتى كتابة القصة، دون أن يظهر أثر لوهيب أو لجسده. بين الحينة والأخرى تعرض مجموعات على الفيسبوك مهتمة بأحوال اللاجئين أخبار وصور غرقى في النهر، فارقت أجسادهم أرواحهم، لكن وهيب.. لا أثر له.

 

 

مجموعة مختصة بمتابعة أوضاع اللاجئين وتقديم المساعدة لهم، بإمكانكم معرفة المزيد عن أحوال المهاجرين الذين يخوضون مغامرة التهريب 

الرابط


ملحوظة: القصة كُتبت وفقاً لرواية من عايشها ضمن أفراد المجموعة والعهدة على الراوي.

الأربعاء، 19 يوليو 2017

هل تستطيع وسائل الإعلام التخفيف من الانبعاثات الحرارية والمحافظة على البيئة؟!





هل تشعر أن موسم الصيف هذا هو الأشد حرارةً على الإطلاق منذ سنوات؟ لست وحدك إذاً مَن يشعر بذلك، أنا أيضاً تعوّدت على التنزه، وقضاء أعمالي متنقلاً بين وسائل المواصلات العامة، والمشي في شوارع إسطنبول، لكن ومع دخول موسم الصيف، وتحديداً هذا الأسبوع، آثرت البقاء في البيت في ساعات اشتداد حرارة أشعة الشمس، خاصة أن الحر هنا أصبح لا يطاق.
الجميع يشكو ارتفاع درجات الحرارة غير المسبوق، بل إن دولاً تشتهر ببرودة الطقس لديها، وصلت فيها درجات الحرارة إلى 40 درجة خذ فرنسا كمثال، أما في مصر فقد وصلت إلى مستويات قياسية تعدّت الـ47، تركيا أيضاً أصدرت تحذيراً لسكانها، خاصة في المحافظات الجنوبية بتوخّي الحذر وعدم الخروج تحت أشعة الشمس في أوقات الذروة، بسبب ارتفاع حالات ضربات الشمس التي تصل إلى المستشفيات بشكل مستمر.
ثلاثة أعوام مضت هي الأشد حرارة في التاريخ الحديث، فما هي توقعات الأعوام المقبلة؟
نهاية العام الماضي توقّع البروفيسور آدم سكايف، من مكتب الأرصاد الجوية البريطانية، بأن يكون عام 2017 عاماً إضافياً ثالثاً بعد عامَي 2015 و2016، حيث يشهد أعلى درجات حرارة للكوكب منذ بدء السجلات في منتصف القرن الـ19، حسبما نقلت وكالة رويترز، وبالفعل هذا ما حدث.
لربما حان الوقت لنتساوى جميعاً في المظالم، خاصة بعد وصول موجات الحر إلى أميركا وأوروبا والصين وروسيا، المتسببين الكبار في ظاهرة الاحتباس الحراري، التي عادة ما يذهب ضحيتها سكان العالم الثالث، لكن الفارق هنا أن سكان العالم الثالث ليست لديهم الإمكانيات والتجهيزات المناسبة لمواجهة تبعات التغييرات المناخية، كما هي موجودة مع الكبار، لكن تعالِي صراخ المجتمعات "الراقية" ظاهرة صحية، وتطور إيجابي، وأن مصيرنا المشترك أصبح مهدَّداً على هذا الكوكب.
انسحاب أميركا من اتفاقية باريس، وتصريحات ترامب الذي عدّ فكرة أن النشاط البشري هو المتسبب بارتفاع درجة حرارة الكوكب بأنها خدعة، كانت نكسة على صعيد جهود مواجهة ظاهرة التغيرات المناخية، وإيجاد حل لها، وقد تتسبب في خفوت مستوى التوقعات التي كانت تشير إلى أن الأعوام القادمة ستنخفض فيها درجات الحرارة، بالتزامن مع التوجه المستمر لشركات ودولٍ كبرى لاعتماد الطاقة النظيفة بديلاً عن الطاقة الأحفورية، والاهتمام بالنظام البيئي ووضع حد لتآكل الغابات، بل وإنشاء أخريات.
ما الذي تستطيع وسائل الإعلام أن تفعل ما عجز عنه السياسيون والمنظمات لحماية البيئة؟
لا يُنكر مدى تأثير وسائل الإعلام في صناعة وتوجيه الرأي العالم العالمي إلا من يعيش داخل الكهوف النائية المنقطعة تماماً عن العالم، قنوات تلفزيونية، صحف، مواقع إخبارية، منصات على مواقع التواصل الاجتماعي، ويوتيوب أيضاً، كل هذه الوسائل عبر إفراد قسم خاص بالبيئة ومتابعة أخبار التغيرات المناخية والدراسات البحثية التي تتناولها، وتسليط الضوء على جمال الطبيعة والتعايش البيئي، وحماية الحيوانات والحشرات، كإفراد برامج أسبوعية على المحطات الفضائية حتى وإن اختلفت تخصصاتها، ووضع تبويبة مخصصة للأخبار البيئية في المواقع الإخبارية، وصفحة مخصصة للبيئة في الصحف، وما إلى ذلك، خطوات كثيرة يمكن أن تتخذها وسائل الإعلام عبر توجيه الرأي العالم للضغط على السياسيين كأمثال ترامب وغيره ممن يقامرون بظروف الحياة على هذا الكوكب، مقابل مكاسب اقتصادية تعود على بلدانهم.
مؤخراً تداولت وسائل الإعلام الدولية خبراً يتعلق بتبنّي الصين مدينة الغابة، هذه المدينة السكنية ستقوم باستهلاك غاز ثاني أكسيد الكربون من الجو وإطلاق الأكسجين، كمساهمة في التخفيف من الانبعاثات الحرارية، أخبار كهذه ستعمل على المساهمة في الدفع بتبني حكومات أخرى مشاريع وخطط مشابهة.
هذا عدا عن الطبيعة المحورية للإعلام في تشكيل الوعي الجمعي لسكان العالم وتوعيته بمخاطر التلوث البيئي والانبعاثات الحرارية، وتنبيههم لمستقبلهم ومستقبل الأجيال اللاحقة وكارثيته في حال استمرار الوضع على ما هو عليه، كل هذا سيدفعهم عبر الحركات الاحتجاجية المنتشرة حول العالم، إلى الضغط على حكوماتهم لتبنّي الخيارات النظيفة في الحصول على الطاقة.
استغلال قوة وتأثير الوسائل الإعلامية في خدمة هذا الكوكب، قد ربما تساعد على تلطيف الأجواء بمعناه الحقيقي في السنوات القادمة بدلاً من حقنه بمزيد من الحروب والصراعات.

الأربعاء، 16 سبتمبر 2015

الاسلام بالطريقة التركية



هشام الزيادي

فهم الاتراك الاسلام بشكله الصحيح واستطاعوا تكييفه والتكيف معه، وفق ثقافتهم وبيئتهم وموروثهم الحضاري الكبير، بحكم ان الكثير من الاحكام والفقهيات في الاسلام الان، اصبحت غالبيتها عبارة عن عادات، وتقاليد ادمجت طوال التاريخ الماضي في الدين الاسلامي، لتصبح جزءً اساسياً منه.


وبحكم ان الجزيرة العربية بيئة تتسم بالقسوة والغلظة نتيجة للطبيعة الجغرافية للمنطقة الصحراوية لسكان البدو، فقد اظهرت صورة اخرى للاسلام هي اقل تسامحاً، وفكراً اخذ من طبيعته الجغرافية ليصبغ الاسلام به، ابتداءً بالعادات اليومية، مروراً باللباس واشياء اخرى، ستجدهم منغلقين على الحياة بحكم انها لا تتمشى مع الاسلام، ستخاف من كل شيء تحب ان تعمله، بحكم ان مصيرك هو النار، بالرغم من انك لو فكرت قليلاً ستجد انه لا ضير في فعلها، وان الاسلام لا يحرم الجمال،.. كسماع الموسيقى مثلاً.


من خلال تعاملي مع الاتراك وجدت نظافة في التفكير تجاهك، وحسن تعامل يستند على طبيعة التعامل من قبلك، بغظ النظر عن شكلك وديانتك وعرقك.


ستجد عائلة ترحب بك في بيتها، لتتعرف على افرادها، ستجلس معهم جميعاً، ستتكلم بشكل لطيف وانيق مع ابنتهم الشابة وتصافحها، لن ينظر اليك الاب او الاخ باعين تقدح شرراً وهي تسيء الظن بك، بل سيشتركون معكما بالحديث.


ستحدثك هذه الفتاة برغبتها في تعلم اللغة العربية لتقرأ القرآن، اما الام فستظل تشرح لك عن حلمها في زيارة بيت الله الحرام، بينما يسرد لك الاب عن التاريخ التركي اليمني.


ستدلك معلمتك المحجبة والمنتمية الى حزب اسلامي على اجمل الاغاني التركية لتسمعها.


ستجد أماً محجبة تمشي في الشارع تمسك بيدها، ابنتها الشابة الجميلة التي تلبس بنطلوناً جميلاً، وتي شيرت يظهر اجزاء من كتفها الابيض وشعرها البني المنسدل عليه.


وفي نفس الرصيف ستجد شابة محجبة الى جانب امها الكاشفة الشعر، وربما الساقين.


نسبة المعاكسات تكاد تصل الصفر بالمئة، لم ارى منذ قدومي الى اسطنبول التي تضم اكثر من عشرين مليون انسان حالات معاكسة، الا نادراً جداً .. قد ربما مرتين فقط


الاسلام لا يتعارض ابداً مع الحياة، افهموا الاسلام اولاً ..


ايلول سبتمبر 2015 

الأربعاء، 6 مايو 2015

نازحون يمنيون ... نزوح من الخطر الى الخطر


اطفال نازحون شمال صنعاء
هشام الزيادي


تزداد معاناة النازحين يوماً بعد آخر مع اشتداد وطأة المعارك بين ميليشيا الحوثي وقوات الرئيس السابق من ناحية والقوات والمجموعات المسلحة المؤيدة للرئيس الشرعي الذي يقيم في العاصمة السعودية الرياض من ناحية أخرى.

ففي خارطة الصراع لهذا البلد والذي اشتدت حدته مع انقلاب تلك القوى على الرئيس الشرعي في فبراير الماضي تنتشر اعمال العنف في عدة مدن وقرى يمنية، فالعاصمة صنعاء تشهد يومياً وبشكل مكثف غارات جوية من قبل التحالف التي تقوده السعودية ضد الإنقلابيين، بينما في المدن الاخرى في جنوب وشرق ووسط البلاد يقاتل الاهالي تمدد تلك القوات الى مدنهم وسط سقوط العديد من القتلى والجرحى، ويتصدر المدنيون قائمة الضحايا الذين يلقون حتفهم في الشوارع او في منازلهم اثر تعرضها لقصف من اليات عسكرية تابعة للانقلابيين او الضربات الخاطئة التي تحدث احياناً من قبل الطائرات المقاتلة لقوات التحالف.

وتفتقد الكثير من المدن لملاجئ يحتمي بها المدنيون من قصف قوات التحالف على مدنهم او عند توغل الحوثيين وقوات الرئيس السابق باستخدام الاليات الثقيلة وضرب المنازل الآهلة بالسكان، خاصة في مدن تعز وإب وعدن والضالع التي تقوم فيها قوات الانقلاب بقصف عشوائي على المدنيين، مما يزيد من عدد الضحايا الذين يتساقطون يومياً جراء هذه المعارك.

وتشير احصائيات رسمية الى سقوط المئات من المدنيين، بينهم 115 طفلاً خلال فترة لا تتجاوز شهراً واحداً، فيما تقول بيانات الامم المتحدة ان الصراع تسبب في نزوح 150 الف شخص.


النازحون داخل المدن.

بعض السكان هجروا منازلهم في العاصمة صنعاء والمدن الرئيسية التي تتعرض لاعمال عنف الى قرى ومناطق آمنة، التي تغيب عنها هذه المشاكل ولو بشكل نسبي، والبعض الآخر ممن لا يستطيعون الخروج الى القرى، آثروا الانتقال من مناطق في المدينة الى مناطق أخرى اقل خطراً.

في حي عطان الذي يقع اسفل جبل عطان شهد هذا المكان عدد من الغارات الجوية على مخازن السلاح التي يخبئها الجيش في تلك الجبال التي تحيط بالعاصمة صنعاء.

ذهبنا الى هناك، فوجدنا البيوت خالية، ومعظم السكان كانوا قد هجروها قبيل آخر انفجار شهده حيّهم في العشرين من ابريل والذي تأثرت فيه نصف مناطق العاصمة، في الارجاء بعض الكلاب تنظر الينا بلا مبالاة تبحث عن طعامها في اماكن القمامة، ولا وجود للاهالي، فور وصولنا استقبلنا احمد شجاع الدين خريج كلية القانون، الذي عاد الى منزله لأخذ ماتبقى من الاغراض، أخذنا الى هناك يرينا مدى الضرر الذي لحق بمنزله وقصة نزوحه وعائلته من المكان.


يقول احمد وهو يتجول بين حطام المنزل:" انظر الى اثار الدمار في المنزل، كنت اعيش انا واسرتي هنا، اسرة مكونة من 8 اشخاص، نزحنا من هذا المكان في السابع والعشرين من شهر مارس بعد توالي الضربات الجوية على الوية الصواريخ الكائن في قمة الجبل خلفنا، ووجدنا منطقة اكثر امناً في وسط العاصمة في منزل اخي الكبير الذي استضافنا في منزله"

آثار الحطام على المنزل تعود الى العشرين من ابريل بعد الضربة الجوية الشهيرة على الوية الصواريخ والتي راح ضحيتها اكثر من 30 شخصاً من المدنيين.

يقول احمد ان غالبية سكان الحي نزحوا من المكان بسبب اشتداد الضربات الجوية على مخازن الاسلحة وتطاير هذه الاسلحة على منازل المدنيين.

تكاد قصص من نزحوا من هذا المكان تتشابه كثيراً مع قصة أحمد، فالوضع المأساوي يزداد وينقص من اسرة الى أخرى.

يخاف احمد كثيراً على والديه، فهو كما يقول يحبهم جداً، وفي هذا الوضع قد ربما يسرق الموت احدهم، وهو ما يخافه.

اثناء حديثنا مع احمد يأتي صديقاه عبدالملك البشاري 24 سنة وموسى الشميري 22 عاماً لمساعدته في حمل باقي اغراض المنزل ونقله لمنزل آخر اكثر أمناً، لكنهم حين يسمعون حديثنا يبدؤون بسرد قصصهم الخاصة، واصروّا علينا ان يأخذونا الى حيّهم المجاور.

 توفي اخو عبدالملك وهو يصغره بأربع سنوات، الى جانب عدد اخر من اهالي حياهم جراء تسرب غازات لم يعرف نوعها من مخازن الاسلحة التابعة للجيش بعد ضربة مباشرة لقوات التحالف.

لا تزال اسرته تعاني من اثر صدمة رحيل ابنهم اكرم الذي عاش اللحظات الاخيرة بين يدي اخيه، يحكي عبدالملك بحرقه وهو يتحدث لجهاز التسجيل عن كيف حاول مساعدة اخيه على التنفس في ذلك اليوم ، حيث كان الى جانبه في الحي بعد مغادرة اسرتهم ونزوحهم الى بيت احد اقربائهم في منطقة اخرى من العاصمة

يتحدث عبدالملك بعد ان اغمض عينيه.. يتذكر:" كانت الساعة العاشرة ليلاً ، تسرب الغاز من المعسكر، وبدأ الاهالي يخرجون بشكل هستيري يبحثون عن الهواء، والاكسجين يتناقص في رئتهم، ذهبت مباشرة للبحث عن اخي الذي كان يبعد عني 5 مبانٍ من هنا، ترك الاهالي منازلهم وهم هاربين، لا وجود لسيارات الاسعاف، فقط بعض المبادرات الذاتية من الاهالي لمساعدة كبار السن، كان وضعاً مأسوياً".

لا يبدو على عبدالملك رغبته في مغادرة منزلهم رغم خطورة المكان، حيث يقول:" تعبنا كثيراً في بناء هذا المنزل، لا يوجد لدينا مكان غيره، ومن الصعوبة الان البحث على مكان آخر في وقت قياسي، خاصة مع انعدام المشتقات النفطية وسوء الاحوال المعيشية".

اثناء حديثنا دوّت بعض طلقات مضاد الطيران بعد تحليق طائرة استطلاعية وقال" يجب علينا الاسراع، المكان غير آمن"

عائلته تسكن الان في منطقة ليست بعيدة عن هنا، وكل 10 دقائق تتصل والدته به لتطمئن عليه، تعيش والدته حالة نفسية بعد وفاة ابنها الاصغر وتخشى الان على عبدالملك من ان تفقده، حتى الان لا تزال عائلة عبدالملك في بيت قريبهم وهم ينتظرون بفارغ الصبر انتهاء المعارك للعودة الى منزلهم.

ليس بعيداً عن بيت عبدالملك، يأخذنا موسى لنرى اضرار منزلهم الذي سقطت عليه بعض الحجارة من الجبل جراء الانفجار الكبير حد تعبيرهم، من الداخل يبدو على البيت وكأن قذيفة سقطت عليه ملحقة اضرار بمرافق البيت، لحسن الحظ لم يتواجد موسى وعائلته .. فقط حارس يحرس بعض البيوت ضمن بمبادرة من سكان الحي وهي ترك بعض شبابها لحراسة اغراض بيوتهم ونزوح عائلاتهم الى اماكن آمنة، في هذا الحي كما في غيره من احياء العاصمة، لا توجد حكومة ترعى الجانب الامني للسكان او اغاثتهم، فقط الاعراف الاجتماعية حسب تعبيرهم هي من تحميهم من نتائج الصراعات كالسرقة والاغتصاب.


هؤلاء هم ضحايا للضربات الجوية لقوات التحالف بقيادة السعودية المؤيدة للرئيس الشرعي على مدن تخضع لسيطرة الانقلابيين، وفي اماكن أخرى في مدن الوسط والجنوب تكثر فيها حركة النزوح بسبب انتهاكات التي يقوم بها الحوثيون ضد سكان تلك المناطق المؤيدة للرئيس الشرعي والرافضة للانقلابيين.

النازحون في جيبوتي

قبل ايام نقلت سفن الاف من اللاجئين اليمنيين الى جيبوتي في الجانب الاخر من البحر الاحمر بعد ان نزحوا من مدنهم التي كانوا يسكنون بها، وهي الدولة الوحيدة حتى الان التي استقبلت لاجئين في اراضيها، الى جانب الصومال التي صرّحت انها لا تستطيع ايواء عدد آخر من اللاجئين اليمنيين بسبب قلة الامكانيات لدى دولة الصومال، بالرغم من غياب الخدمات الاساسية، الا ان هؤلاء اللاجئين يفضلون غياب الخدمات على الموت في بلدهم.

المنظمات الانسانية ودورها في تقديم المساعدات
ويُلاحظ في ظل هذه الازمة غياب الدور الفاعل للمنظمات الانسانية الدولية في توفير الخدمات اللازمة للنازحين وتقديم مساعدات لهم على الارض، وذلك يعود لعدة أسباب حسب تعبير احد ناشطي الاغاثة في احد المنظمات المحلية وهي: الضربات الجوية لمطار صنعاء والمطارات الاخرى بشكل شبه يومي من قبل قوات التحالف والذي يصعّب بدوره وصول المساعدات الانسانية عن طريق الجو، والحظر المفروض على اليمن جواً وبحراً وبراً من جهة هذه القوات، اضافة الى مصادرة الانقلابيين لبعض هذه المساعدات لصالح مقاتليهم، وترد من وقت لآخر انباء عن بعض المساعدات التي تقوم بها منظمة الصليب الاحمر، والتي يرى اطباء وناشطون انها لا تكفي لهذا العدد الكبير من النازحين والمتضررين.


الى ذلك لا توجد مخيمات تأوي النازحين من مناطق الصراعات لتعمل على تنظيم استقبالهم وتقديم المساعدات لهم، وانما تقتصر عملية النزوح الى قيام النازحين بالنزوح الى مناطق اخرى يقيم فيها اقاربهم.

أمل النازحين في العودة
في هذه الاثناء الذي يعيش فيه النازحون وضعاً مأساوياً وسط تجدد المعارك بين الاطراف المتصارعة، تظهر النبرة التفاؤلية في حديث بعض النازحين حول ان الوضع لن يستمر طويلاً وسيعود ابناء هذا الوطن للتصالح مجدداً، ويعود النازحون بدورهم الى منازلهم ليبدؤوا حقبة جديدة في بناء وطنهم.